ما عاش من عاش لنفسه فقط.. ومن عاش لنفسه.. عاش صغيرا، وعاش قليلا، ومن عاش لغيره.. عاش كبيرا، وعاش كثيرا.. ومن لم يدخل جنة العمل العام في الدنيا، يُخشى عليه ألا يدخل جنة الثواب من الله في الآخرة.
مفهوم العمل العام
هو العمل الذي يقوم به المرء من منطلق ذاتي بُغية خدمة المجتمع الذي يعيش فيه أو الناس من حوله، أو تحقيق مصلحة ما لهذا المجتمع (عامة)، أو الإعلاء من شأن فكرة أو معتقد يحقق نماء هذا المجتمع، وسعادة أفراده.
والأمر هكذا؛ يقتضي العمل العام تضحيات في الوقت أو الجهد أو المال أو غيرهم من مادة الحياة، وقد لا يعود على صاحبه بأي مكاسب شخصية، أو منافع فورية، بشكل مباشر، بل ربما سبب له قدرا من الأذى أو الضرر.. المعنوي أو المادي؛ فيتحمله صاحبه عن طيب نفس، ورضى قلب.
ذلك أن الهدف الكبير له، المتمثل في محاولة إسعاد الآخرين، أو إصحاحهم بالأفكار السليمة، أو قيادتهم بالأعمال العظيمة، أو تخليصهم من المعتقدات الفاسدة، والأخلاق الرديئة، ذلك كله يجعله يتحمل هذه المضار.
أهميته ومجالاته
كلما زاد العمل العام في المجتمع زادت آفاق نهوضه وتقدمه، وقلت احتمالات فقره وتخلفه.. وكلما اتجه المجتمع إلى الأُثُرة، وغلبت على أفراده الأنانية، كان ذلك سابقة تخلف، ومعيار تدهور، إذ سيتقدم الخاص على العام، وينصبغ المجتمع بروح الجشع، وتعلوه سحائب الأنانية، بتقديمه الشخصي على العام، والفردي على الجَمعي.
وليس العمل العام مقصورا على فئة معينة من الحكام أو الساسة أو الناشطين أو المحترفين.. بل هو واجب كل فرد تجاه مجتمعه الذي عاش فيه، ومعتقده الذي آمن به.
وتجسد مقولة عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - هذا المعنى؛ فقد رأته زوجته فاطمة بنت عبدالملك، ذات ليلة، وقد انسالت دموعه على خديه، ووضع لحييه على يديه، فسألته: ما لك؟
فقال: "ويحك يا فاطمة: قد وليت من هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي - عز وجل - سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته؛ فرحمت نفسي؛ فبكيت".
(توفي عمر بدير سمعان من أرض حمص بسوريا يوم جمعة، وله 39 عاما، واستمر حكمه سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام فقط).
في الإسلام
الناظر إلى الإسلام – بإمعان - يرى أن أركانه الخمسة من أهم الوسائل التي تحفز المرء على العام العام.. فالصلاة تطهير من الفردية والفساد، ورفع من جواذب الأرض إلى علياء السماء.
والزكاة تطهير للنفس من الشح، ومنح للحق المعلوم إلى أصحابه المحتاجين.. والصيام كذلك كبح لجماح الأنانية، وصد عن سوء الأخلاق، بما يعود على الفرد والمجتمع بالصفاء والنماء.
والعمل العام "احتساب.. لا اكتساب".. بمعنى أن صاحبه يعمل العمل لله؛ على نور من الله؛ يرجو ثواب الله.. فما من نبي إلا قال لقومه: "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ. إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ". (الشعراء : 109).
وتدعو عشرات الآيات القرآنية إلى تحمل أمانة التكليف العام، علاوة على عشرات الأحاديث والتوجيهات النبوية الكريمة، فضلا عن عمل الصحابة، وجهاد السلف الصالح، ومن تابعهم بإحسان.. على مر العصور، وكر الدهور، إلى يوم الدين.
الأنبياء والرسل قدوة
كان عشرات الأنبياء والرسل قدوة في العمل العام.. فكل نبي أو رسول بذل طاقته، وأخلص جهده لمجتمعه، أو فكرته، حتى وإن خالفه فيها الجميع، أو وضعوا أمامها جبالا من العثرات والعراقيل.
وهكذا وجدنا من بين هؤلاء الأنبياء والمرسلين من لم يتزوج، أو كان يبيت على الطوى، أو يهجع إلى ليف خشن، أو يصيبه البلاء في الصحة، أو القلة في المال أو الإعراض من الأنصار فلا يبتئس، ولا يحزن، ربما قدم حياته، ودماءه، قربانا للعمل العام.
وبالرغم من ذلك لم يعرف معظمهم، إلا من استثنى الله تعالى، وهم قلة، رفاهة العيش، ولا طيب الطعام، ولا لذيد المطعم، ولا غالي الثياب، ولا فاره البيت.. إلخ.. لكنهم عُرفوا - سلام الله عليهم - بالإيثار للآخرين، والكفاح لراحتهم، مستعلين على الدنيا ونعيمها وزخرفها الزائل.
فلم يدخر أحدهم دينارا ولا درهما، ولم يورث ضياعا ولا أموالا. ولعل في قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام - إضاءات قوية في العمل العام، والعيش وسط الناس، والعمل لأجل إسعادهم، حتى وإن لم يسمع أحد بالعمل، أو ينتشر بين الناس.
قدر قيمة الحياة
يطرح السؤال نفسه الآن: أين أنت من العمل العام.. لا سيما ونحن نعيش في هذا الوقت الحساس من تاريخ أمتنا، ونشهد مقتضيات المرحلة؟ ثم أين أنت مما يحتاجه وطننا، ومجتمعنا؟ وأخيرا: أين أنت من مشروع النهضة، وإحياء الفكرة السليمة، ونشر الكلمة الطيبة، ورسم البسمة على الوجوه؟
بقليل من تنظيم الوقت، وحسن إدارة الإمكانات؛ يمكنك أن تسهم في العمل العام، وأن تتذوق طعمه، وأن يكون لك دور مختلف في التاريخ، وحياة أخرى إلى حياتك.
المهم وضوح الهدف، وسمو الرسالة، والعمل لهما بإخلاص ما حييت، وهذا من تقدير قيمة الحياة. قال الدكتور إبراهيم الفقي - يرحمه الله -: "عِش كل لحظة كأنها آخر لحظة في حياتك، عِش بالإيمان، عِش بالأمل، عِش بالحب، عِش بالكفاح، وقدر قيمة الحياة".
[email=.abdelrahmansd@gmail.com][/email]