الثقافة العربية بين الأصالة و المعاصرة هذا المقال الأكثر من رائع للدكتور فرحان السليم قرأته و أعجبني أيما إعجاب . ونظرا لما وجدت فيه من فائدة أحببت نقله للقراء الكرام.أنا في انتظار فتح حوار للنقاش بشأن موضوع المقال
الدكتور فرحان السليم أستاذ مقرر النحو والصرف في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة البعث، يحمل الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق عام 1974، عُين معيداً في جامعة حلب – كلية الآداب قسم اللغة العربية أواخر عام 1975، ثم اُوفد إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا في علوم اللغة العربية، وحصل هناك على الماجستير من معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة ستراسبورغ للعلوم الإنسانية عام 1978 ثم دبلوم الدراسات المعمّقة عام 1979، ونال شهادة الدكتوراه من الجامعة ذاتها عام 1982، وهوعضوالجمعية التاريخية، وعضو رابطة الخريجين والجامعيين في سورية، له العديد من الدراسات العلمية في تاريخ اللغة العربية وعلومها، كما نشر العديد من الأبحاث الأدبية في الدوريات المحلية والعربية.
المــــــوضوع
إن أول تكليف نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف
(( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ))
كان هذا النص قاعدة الإصلاح الأولى التي صنع النبي صلى الله عليه وسلم بها نواة مجتمع حضاري حوَّل مجرى التاريخ في منطقة لا تمتلك أنموذجاً للحضارة .
وفي واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا يحكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم ، فالوطن العربي تمتلك شعوبه هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى ، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها ، بل تنبهت مؤخراً إلى الغزو الثقافي الذي رافق الغزو الإعلامي وأصبح موضوع بحث ونقاش . يطرح هذا في أوساط المؤسسات الثقافية التي تقف حيرى أمام فشلها في الرقي بثقافة الشعوب وتنميتها .
إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم ، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي عقيمة ، ومن ثم فإن الشعب العربي لا يمكن أن يتفاعل مع ثقافات تتنافى مع قيمه وإن سميت ثقافة عربية .
ولا تعني أصالة الثقافة إهمال ثقافة الآخر وعدم الاطلاع عليها والإفادة منها ، كما لا تعني ثقافة دينية بالمعنى الكهنوتي ، وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية التي تدرس في المعاهد كما هي عليه ، بل تعني العودة إلى الأصالة منهجاً وقيماً ومصدراً في تنمية ثقافة المجتمع أيا كان اتجاهها أدباً أو فكراً أو فناً .
والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة ، ولا مترجمة ، ولا ملفقة ، ولا منغلقة ، بل هي ثقافة تعتمد على الإبداع الذي ينبع من التأمل والنظر في الكون،ولا حدود لهذا الإبداع فأفقه مفتوح.
تعد ثقافتنا العربية من أغنى الثقافات العالمية وأهمها ، فبعد أن ترسخت جذورها قبل الإسلام لغة مشرقة وحكماً وخطباً وأمثالاً وشعراً تجلت فيه العبقرية العربية وكان صورة لحياة العرب ومرآة تفكيرهم ومشاعرهم ومسرح خيالهم ، تنزل القرآن الكريم بالعربية فأغناها معاني سامية وبياناً رائعاً ، وفتح لها سبل الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها .
وبعد السلطان المكين ، أقبل العرب على نقل علوم الأقدمين ، ومنها انطلقوا في آفاق العالم مستكشفين مبدعين إلى جانب عطائهم المستمر في الفقه والأدب وفنون القول كافة .
وخلال هذه المسيرة الشاقة تعرضت الثقافة العربية لسهام "الآخرين" ، الذين حاولوا الإساءة إلى اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس ومجالات الحياة المختلفة ، ثم حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة في الثقافة العربية ، ثم جاءت ثقافة العولمة لتزاحم الثقافة العربية في عقر دارها كما تزاحم ثقافات مختلف شعوب العالم لتجعله بلا حدود ولا ألوان ، ساحة للسلع ومتجراً واسعاً يكدس منه الطامعون أرباحاً خيالية هي عرق الكادحين ودم المناضلين في أرجاء الأرض .
إن قدر لغتنا العربية أن تقاوم الإقصاء والتشويه ، وقدر أمتنا أن تحافظ على هويتها وترد َالطامعين بها . إن إرادة الحياة هي الأقوى
والحقَّ هو الأبقى والمستقبل لمن صبر حتى نيل الظفر.
الصراع بين دعاة الأصالة والمعاصرة
لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بين ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد : التقليد والتجديد ، المحافظة والتحديث ، الجمود والتحرر ، الرجعية والتقدمية ، الأنا والآخر ، الداخل والخارج ، المحلي والعالمي ، القديم والجديد ، التراث والحداثة، ومنها الأصالة والمعاصرة .
وجدت منذ عصر النهضة ـ وتوجد الآن ـ في المجتمع العربي أقلية تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا ، بهدف الخروج من وضعنا البئيس . إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون ، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء .
إن أمتنا العربية على الصعيد الثقافي لا تبدأ من العدم بل هي تستند إلى إرث ثقافي غني باذخ ، وما يشغلها الآن هو : كيف توائم بين هذا التراث وبين متطلبات العصر الذي نعيش فيه . هل تتمسك بالثقافة المتوارثة التي ألفتها أم تهجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهددانها لأنها إن تمسكت بالقديم مكتفية به عاشت خارج الزمان ، وإن تلبست الجديد بلا روية عاشت خارج المكان .
إن هذه المشكلة قد شغلت العديد من المفكرين والباحثين ، ولكن من الجلي أن الثقافة ليست في أكثر مكوناتها صيغة جامدة لا تتغير ، بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً بجهود البشر . فالثقافة العربية في عصر المعري ببلاد الشام وعصر ابن رشد في الأندلس ليست الثقافة العربية في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو العصر الأموي .
إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم ، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى ، ولاسيما في ميدان العلوم والتقانة والتقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة ، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور .
أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية ، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم ، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد .
هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف ،محو التخلف ، ويفترقان في الأسلوب : الأصالة بالمحافظة على الموروث،أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك ؟
كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه ، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه .
ولا ريب : أنه وجد غلاة في كلا الفريقين . ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر ، وجد الجامدون على كل قديم ، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ ، شعارهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حتى قال محمد كرد علي : نسينا القديم ، ولم نتعلم الجديد .
إنها ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل ، وهي ثنائية التكامل ، لا ثنائية التضاد والتقابل ، وقد أحسن د. عبد المعطي الدالاتي صياغتها بقوله : " لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث " .
مكونات الثقافة العربية
إن الثقافة العربية تتكون من مكونين رئيسيين : اللغة العربية والإسلام ومن هنا إصرار بعضهم على تسميتها : " الثقافة العربية الإسلامية " .
إن اللغة هي وعاء العلوم جميعاً ، وأداة الإفهام والتعبير العلمي ، والفني والعادي ، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها ، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية .
ومن هنا فإن كل من يحارب اللغة العربية يحارب بالنتيجة الثقافة العربية . وكان من ديدن أعداء هذه الأمة إضعاف الفصحى ، وإشاعة العامية ، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة القومية ، وإلغاء الحرف العربي في الكتابة ، وإحلال الحرف اللاتيني محله .
أما الدين فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها ، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً ، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية ، وشعائره التعبدية ، وقيمه الخلقية ، وأحكامه التشريعية ، وآدابه العملية ، ومفاهيمه النظرية ، حتى إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم ، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته ، شعر أم لم يشعر ، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول : أنا نصراني ديناً ، مسلم وطناً .
ويأتي السؤال ـ الإشكالية : كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد ؟ كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم ؟ وبين تراثنا الأصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث ـ أو بين الأصالة والمعاصرة ـ هي علاقة التضاد والتناقض ؟ فلا أمل في الجمع بينهما ، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما .
السؤال خطير ، والجواب مهم ، ولاسيما في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها ، بعد أن اكتشفت ذاتها التي غابت أو غُيبت عنها زمناً .
وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين ، فاختار فريق التراث والأصالة ، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان .
واختار آخرون العصر والحداثة ، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان . وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء .
لا تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة
إن الموقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة المتأنية لكل من الأمرين المعروضين . وقد سقط الكثير في هذا الخطأ الشنيع، حين تسرع في الجواب بغير علم عن هذا السؤال .
ويحكي لنا الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " تجديد الفكر العربي " قصة تسرعه حين واجه السؤال عن طريق للفكر العربي المعاصر ، يضمن له أن يكون عربياً حقاً ( أي أصيلاً ) ومعاصراً حقاً .
" قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض بين الحدين لأنه إذا كان عربياً صحيحاً ، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لجديد ـ وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرَة هواء يتنفسونها ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً ، كان محتوما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه ، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين .
نعم قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض ، ولذلك يجب السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركّب واحد ، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نارة ، فهل بين الطرفين مثل هذا التناقض حقاً ؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما ، ذلك هو السؤال " .
ويقول الدكتور : " لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد ، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره ، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول : إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم ، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون ، ونجدَ كما يجدُون ، ونلعب كما يلعبون ، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون !! على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ ، فإما أن نقبلها من أصحابها ـ وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع ـ وإما أن نرفضها ، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً ، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال ؛ بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة ، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا ، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً ، والناس ـ كما قيل بحق ـ أعداء ما جهلوا .
ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية ، فما دام عدونا الألدُ هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة ، فلا مناص من نبذه ونبذها معاً ، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص ، يحفظ لنا سماتنا ويردُ عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه " . ويتابع الدكتور قوله : " ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس " ( تجديد الفكر العربي ، القاهرة ، دار الشروق ، ص12ـ 14 ) .
ماذا تعني الأصالة ؟
إن فهم الأصالة يقتضي ما يلي :
1. ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا : فهم هذه الثقافة من مصادرها الأصلية ، ومن أهلها الثقات ، وبأدواتها ومناهجها الخاصة .
2. الاعتزاز بالانتماء العربي الإسلامي : يشعر المثقف العربي المسلم ، الذي ينتمي إلى ثقافة العرب والمسلمين ، أنه عضو في جسم هذه الأمة ، وأنه متحرر من عقدة النقص التي يعاني منها بعض الناس تجاه كل ما هو غربي . إنه يعتز بلغته ، لغة القرآن والعلوم ، ويعمل على أن تكون لغة الحياة ، ولغة العلم ، ولغة الثقافة ، وقد كانت لغة العلم الأولى في العالم كله لعدة قرون ، فلا يجوز أن تعجز اليوم عما قامت به بالأمس .
3. العودة إلى الأصول : إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية ، والأخلاقية ، ونسعى إلى تحويل اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي . إن الاعتزاز يصبح ظاهرة مرضيَة إذا ظل مجرد كلام يردد ، وشعارات ترفع ، وصيحات تتعالى ، لسرد الأمجاد ، وتعظيم الأجداد .
4. الانتفاع الواعي بتراثنا : والغوص في حضنه الزاخر ، لاستخراج لآلئه وجواهره . ولا يتصور من أمة عريقة في الحضارة والثقافة أن تهمل تراثها وتاريخها الأدبي والثقافي ، وتبدأ من الصفر ، أو من التسول لدى غيرها .
إن التراث يحتوي الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، والسمين والغث . ففي التراث روايات يرفضها العقل والمنطق ، وفيه الإسرائيليات التي شاعت وانتشرت . من ذلك مثلاً كلام الفلاسفة الكبار عن العناصر الأربعة : التراب والهواء والنار والماء ، أو عن الأفلاك ، أو عن شكل الكون ، ومركز الأرض ، أو غير ذلك ، مما أبطلته علوم العصر ووثباته الهائلة .
وفي التراث أشياء لم يثبت خطؤها ، ولكن لم تثبت جدواها ، أو لم تبق الحاجة إليها قائمة ، كما كانت من قبل ، مثل مباحث علم الكلام المتفلسف ، ولم تبق تخاطب الناس بلسان العصر ، وبعض مباحثها أمسى غير ذي موضوع ، وبعضها تجاوزه العلم أو أبطله . وينبغي وضع علم كلام آخر يعبر عن عصرنا ، ويواجه تياراته ، ويحل مشكلاته .
وفي علم التصوف شطحات ونتوءات في الفكر والتصور ـ كالحلول والاتحاد ـ تناقض صفاء التوحيد الإسلامي ، وأخرى في السلوك والعمل ـ كالمبالغة في الزهد والتوكل ـ تنافي وسطية الخلق الإسلامي .
وفي كتب الأدب والشعر أشياء تجاوزت الدين والخلق والعرف والذوق ، كالغزل بالذكور والحكايات الهابطة .
إننا لسنا مع الذين يضفون القدسية أو العصمة على كل ما مضى ، ولا مع خصومهم الذين ينأون بجانبهم عن كل موروث ، لا لشيء إلا لأنه قديم ، ولكن لابدَ من التخير والانتقاء ، لاسيما في مجال التربية والتثقيف ، أو مجال الدعوة والتوجيه ،أو مجال الحكم والتشريع .
قراءة مستبصرة للتراث
يجب أن تتحقق قراءة مستبصرة للتراث ، وفق معايير مضبوطة تسهم في نهضة الأمة ، وتأخذ بيدها نحو الصراط المستقيم . فمثلاً نقرأ الشعر العربي فنأخذ من روائع التصوير ، وبدائع التعبير ، عن النفس والطبيعة والحياة ، ونقتبس غوالي الحكم ، ونترك المديح المسرف والهجاء المقذع ، والعصبية القبلية ، والمجون المكشوف ، والشك المتحير .
نقرأ حجة الإسلام الغزالي وننهل من تراثه الرحب في التربية والأخلاق ، ونترك ما تضمنت كتبه من غلو الصوفية ، أو من معارف أثبت علم العصر بطلانها ، أو ما استند إليه من الأحاديث الواهية والموضوعة التي لا سند لها .
نقرأ التفسير ، ونحذر من الإسرائيليات ، والأقوال الفاسدات .
ونقرأ الحديث ، ونحذر من الموضوعات والواهيات .
ونقرأ التصوف ، ونحذر من الشطحات والتطرفات .
ونقرأ علم الكلام ، ونحذر من الجدليات والسفسطات .
ونقرأ علم الفقه ، ونحذر من الشكليات والتعصبات .
قراءات متحيزة أو موجَهة للتراث
تنحاز بعض القراءات المتحيزة لبعض المدارس دون بعض ، ولبعض الاتجاهات والشخصيات دون بعض ، تأخذ من التراث وتدع ، وتحذف منه وتبقي ، وفق أهوائها وميولها الخاصة .
منهم من ينحاز إلى " المدرسة الفلسفية " ولاسيما " المدرسة المشائية " ، التي جعلت أكبر همها التوفيق بين الفلسفة والدين ، ولكنها اعتبرت الفلسفة أصلاً ، والدين تبعاً ، فإذا تعارضا أولَ الدين ليتفق مع الفلسفة .
ومنهم من ينحاز إلى " المدرسة الاعتزالية " ، ويعدُ المعتزلة " المفكرين الأحرار " في الإسلام . وحديث هؤلاء عن المعتزلة يوهم أنهم جماعة " عقلانية " محضة ، لا تذعن لنصوص الدين ، ولا تخضع لأحكام الشرع ، وهو تصوير غير صحيح ، لاسيما في مجال الفقه والأحكام العملية ، التي كثيراً ما تبعوا فيها المذهب الحنفي .
ومنهم من ينحاز إلى شخصيات معروفة دون غيرها ، مثل ابن رشد ، وابن حزم ، وابن عربي ، وابن خلدون ، وكلامهم عن هؤلاء وأمثالهم يصورهم بصورة " العقلانيين " الخلصاء ، الذين يرفضون النصوص إذا خالفت مقرراتهم العقلية .
وهذه قراءة متحيزة لهؤلاء الأعلام ، فكتبهم تدل بوضوح على أنهم ـ ككل المسلمين ـ لا يملكون أمام محكمات النصوص ، إلا أن يقولوا : سمعنا وأطعنا .
فابن رشد وابن خلدون كلاهما قاض شرعي وفقيه مالكي ، وابن رشد هو صاحب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " في الفقه المقارن ، الذي يتجسد فيه احترام المصادر والأدلة الشرعية كلها ، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
وابن حزم وابن عربي كلاهما فقيه ظاهري ، يأخذ بظواهر النصوص وحرفيتها في مجال الفقه واستنباط الأحكام ، وإن كان على ابن عربي اعتراضات جمة في تصوفه الفلسفي .
ولكن هؤلاء العصريين يستنطقون تلك العقول الكبيرة ـ على اختلاف اهتماماتها وتخصصها ـ بما يحبون هم أن تنطق به ، لا بما نطقت به بالفعل ، فهم يريدونها مترجمة عنهم ، معبرة عن فكرهم ، لا عن ذاتها وفكرها الخاص .
ويرى الدكتور فهمي جدعان ( نظرية التراث ، عمان ، دار الشروق ، ص26 ) أن هؤلاء يستلهمون التراث الماضي ما يبررون به الواقع الحاضر ، ويرى أن عملية "الاستلهام " هذه ليست إلا عملية تسويغ لقيم الحاضر ، بإسقاط غطاء تراثي عليها ، وأن الذي يحدث عملياً أن الحاضر هو الذي يفرض قيمه ، ويلزم بها .
ومثل هؤلاء من يدعو إلى " إعادة قراءة التراث " وفق مناهج معاصرة ، ارتضاها أصحابها ، تبعاً للمدارس التي ينتمون إليها .
وهذا التوجه شائع عند المثقفين الذين مارسوا خبرة بمناهج العلوم الإنسانية الحديثة ، وبالفلسفات الغربية المعاصرة ، فكل واحد من هؤلاء يقرأ التراث وفقا لمنهجه المحدد ، ويفسره ويوجهه تبعاً لإطاره المرجعي ، فهذا يقرؤه قراءة عقلانية ، وثان قراءة لسانية ، وثالث قراءة مادية ، ورابع قراءة براجماتية ، وقراءات أخرى معرفية ووظيفية وبنيوية ، إلى آخر التصنيفات التي تحاول " أدلجة " التراث ، وتوظيفه لخدمة أفكار مدرسة معينة ، وتوجيهه توجيها قبْلياً واضحاً ، فهي ليست قراءة للفهم ، وإنما للفعل والتأثير بل " للتثوير " عند بعضهم .
يقول الدكتور جدعان : إن هذه " الأدلجة " لم تكن تعني في نهاية التحليل إلا شيئاً واحداًَ هو : أن الحاضر عاجز ـ بإمكاناته وقدراته الكامنة والصريحة ـ عن إحداث التغيير المنشود . وأن التراث الذي يشد الناس إليه ، هو الذي يملك القوة السحرية على التغيير ، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ بعد توجيه قراءته الوجهة التي تخدم الأهداف المنصوبة ( ص28ومابعدها ).
ماذا تعني المعاصرة ؟
إن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان في عصره وزمانه ، ومع أهله الأحياء ، يفكر كما يفكرون ، ويعمل كما يعملون ، يعايش الأحياء لا الأموات ، والحاضر لا الماضي . ويقتضي ذلك ما يلي :
1. ضرورة معرفة العصر :
أي أن نعرف " العصر " الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة ، فإن الجهل بالعصر يؤدي إلى عواقب وخيمة ، وهذا ما دفع أحد المفكرين إلى القول : إن المشكلة ليست في جهلنا بالإسلام ، بل المشكلة في جهلنا بالعصر ! والجهل بالعصر سمة مشتركة بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة . إن من بين دعاة الأصالة من يعيش في الماضي وحده ، ويسكن في صومعة التراث ، وقد أغلق عليه بابها ، فلا يكاد يرى أو يسمع أو يحسُ شيئاً مما حوله . ويا ليته يعيش في عصور التألق والازدهار ، بل كثيراً ما يعيش في عصور التخلف والتراجع . فهو يفكر بعقولهم ، ويتحدث بلغتهم ، ويحيا في مشكلاتهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، فهو حي يعايش الأموات ، أكثر مما يعايش الأحياء .
إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من الآبائيين الذين يفرون من مواجهة الواقع إلى أحضان آبائهم وأجدادهم : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )) . وإذا سألتهم عن حل لمشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي يحلوها . حتى قال فيهم جمال الدين الأفغاني : لقد أضحوا على حالة كلما قلت لهم كونوا بني آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا .
المطلوب ـ إذن ـ أن يعيش الإنسان القوي في حاضره ، منطلقاً إلى مستقبله ، ولكي يحسن العيْشة في حاضره وزمانه (عصره) ينبغي أن يعرفه حتى يتعامل معه على بصيرة . وكلمة اللسان الواردة في الآية : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )) ، يفهم منها اللغة ويفهم منها طبيعة العصر .
معرفة الواقع من تمام معرفة العصر : الواقع المحلي ( الوطني ) ، والإقليمي ( العربي ) ، والإسلامي ، والعالمي .
وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع ، أو إصدار حكم له أوعليه ، أو محاولة تغييره .
ولا تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إلا بمعرفة العناصر الفاعلة فيه ، والموجهة له والمؤثرة في تكوينه وتلوينه ، سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية ، بشرية أم غير بشرية ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وروحية .
وتفسير الواقع كتفسير التاريخ ، يتأثر باتجاه المفسر وانتمائه العقدي والفكري .
ويجب أن نحذر من النظرات الجزئية ، والمحلية ، والآنية ، والسطحية ، والتلفيقية والتسويغية .
فعلينا أن نحذر من الاتجاه " الإطرائي " للواقع ، ومحاولة تحسينه وإبراز صورته سالمة من كل عيب ، منزهة عن كل نقص ، وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة فيه ، وإن كانت تنخر في كيانه ، واتهام كل من ينقد هذه العيوب والآفات بأنه مشوش ، أو مبالغ أو متطرف .
ونحذر كذلك من الاتجاه " التشاؤمي " الذي ينظر إلى الواقع بمنظار أسود ، يجرده من كل حسنة ، ويلحق به كل نقيصة ، ولا يرى فيه إلا ظلمات متراكمة ، موروثة من عهود التخلف ، أو وافدة مع عهد الاستعمار . جماهير مُضلَّلة ، وأقطار هي مجموعة " أصفار " !! وما يرجى من تغيير ، أو يؤمل من إصلاح ، فهو سراب يحسبه الظمآن ماء .
ومثل ذلك : الاتجاه " التآمري " الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي أجنبية ، وقوى خفية ، تحركه من وراء ستار . ونحن لا ننكر التآمر والكيد ولكن تضخيم ذلك بحيث يجعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ في عضدنا ، وييئسنا من أي توجه إيجابي لإرادة التغيير ، ويريحنا بأن نشعر أننا أبدا ضحايا من هو أقوى منا ، ولا حلَ أمامنا غير الاستسلام للواقع المر . ومن ناحية أخرى يجعلنا هذا لا نعود على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد ، وتدارك ما وقع .
إن أوْلى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي ، أن نردَها إلى الخلل الداخلي ، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) .
وقريب من ذلك الاتجاه " التنصلي " في تفسير الواقع ، بمعنى أن أحداً لا يريد أن يتحمل مسؤولية ما في هذا الواقع من سوء وانحراف ، فكل واحد ، وكل فريق ، يريد أن يحمل وزره على غيره ، أما هو فلا ذنب له ، ولا تبعة عليه .
الكل يشكو من الفساد ، ولكن من المسؤول عن فساد الحال ؟ وأين الخلل ؟ جمهور كبير من الناس يحملون المسؤولية على العلماء ، والعلماء يحملون المسؤولية على الحكام ، والحكام يحملونها على الضغوط الخارجية أو الضرورات الداخلية .
والحق أن الجميع مسؤولون ، كل حسب ماله من طاقة وسلطة : الجماهير والعلماء ، والمفكرون والمربون والحكام : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) . ( متفق عليه من حديث ابن عمر . صحيح الجامع الصغير برقم 4569) .
ومن التفسيرات الخاطئة للواقع : التفسير التسويغي التبريري الذي يحاول أن يضفي على الواقع ، ما يجعله مقبولاً ومشروعاً ، وإن حاد عن الحق وسواء السبيل ، وفي هذا لون من التدليس والتلبيس ، بإظهار الواقع على غير حقيقته ، وإلباسه زيا غير زيه .
إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعالمنا عموما ، وواقع أمتنا خصوصاً كما هو ، دون تحريف ولا تزييف ، ولا تهويل ولا تهوين ، ولا مدح ولا ذم ، مستخدمين الأساليب العلمية الموضوعية في الكشف والرصد والتحليل ، وفي هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء ووصف الدواء .
إن أعداءنا يعرفوننا تماماً ، فنحن مكشوفون لهم حتى النخاع ، فهل عرفنا نحن أعداءنا ؟ وإذا كنا لم نعرف أنفسنا كما عرفها غيرنا ، فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا أنفسنا مثلما عرفها خصومنا ؟
عصرنا بين الإيجابيات والسلبيات
إنه عصر الإيجابيات :
عصر العلم والتكنولوجيا .
عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب .
عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة ، والتطورات الهائلة .
عصر الاتحاد والتكتلات الكبيرة .
عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل .
عصر اقتحام المستقبل ، وعدم الاكتفاء بالحاضر ، فضلاً عن الانكفاء على الماضي .
وهو أيضاً عصر السلبيات :
عصر غلبة المادية والنفعية .
عصر تدليل الإنسان بإشباع شهواته .
عصر التلوث بكل مظاهره .
عصر الوسائل والآلات ، لا المقاصد والغايات .
عصر القلق والأمراض النفسية ، والتمزقات الاجتماعية .
والناس قسمان حيال العصر : منهم من يهرب منه إلى الماضي خوفاً منه بدل المواجهة ، ومنهم من يندمج فيه إلى حد الذوبان ، والخير في الوسط حين نستعمل إرادتنا واختيارنا أمام هذه المؤثرات لنأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا .
ويجب أن ننتبه الى نقطة أن العصر ليس الغرب وحده وإن كان هو المهيمن والمسيطر ، فهناك العالم الإسلامي ، وعالم الشرق الأقصى بدياناته وفلسفاته .
ويردد كثير من تجار الثقافة دعوة مشبوهة هي استيراد الثقافة الغربية بكل عناصرها بدعويين : عالمية هذه الثقافة ، وأنها ثقافة لا تتجزأ .
أما عالمية الثقافة فهي شبهة خاطئة لأنهم يخلطون بين العلم والثقافة ، فالعلم كوني ، والثقافة خاصة بكل قوم وكل جماعة . العلم واحد والثقافات متنوعة متعددة .
أما دعوى أن الثقافة لا تتجزأ فهي مرفوضة تاريخياً وواقعياً . لقد أخذ العرب عن الأمم كثيراً مما عندها من العلوم والمعارف ، ولكنهم لم يأخذوا ثقافتها ، وبقوا محافظين على لغتهم وعقيدتهم وعاداتهم وأعرافهم . أما في العصر الحديث فقد أخذ اليابانيون عن الغربيين العلم والمناهج ، ولم يأخذوا عنهم عقائدهم وشعائرهم وتقاليدهم .
2-العلم والتكنولوجيا :
إن أصالتنا لا تمنعنا من أخذ هذا العلم والاقتباس منه والانتفاع به ، بل هي توجب علينا ذلك إيجاباً . إن التكنولوجيا لا تشترى شراء ، فتلك التي تشترى لا تطور المجتمع ، فهي تساعد على الاستهلاك لا الإنتاج ، والتقليد لا الاتباع . إن التكنولوجيا يجب أن تنبت عندنا ، وأن تتفاعل مع واقعنا ، وأن نحملها نحن . ولا يظنَنَ ظان أن ما نملكه اليوم من أجهزة ومعدات يجعلنا عصريين .
3 - النظرة المستقبلية :
إن من طبيعة المعاصرة ألا نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إلى المستقبل . إن النظرة إلى المستقبل لا تقوم على الكهانة والتنجيم ، ولكن على الإحصاء والتخطيط ، والدراسة والرصد وبناء النتائج على المقدمات . يجب أن نفيد من دراسات المستقبل التي ازدهرت في الفترة الأخيرة ازدهاراً كبيراً .
والناس بين الماضي والمستقبل على ثلاثة أنواع :
أ. الماضويون : المشدودون دائماً إلى الوراء لا ينظرون أمامهم أبداً . ومن سماتهم أنهم يضفون لوناً من القداسة على التراث فهو برأيهم حق كله لا يمكن أن نترك شيئاً فيه . ويسرفون في ردّ كل جديد إلى قديم من التراث ، وإن لم يقم على ذلك برهان : فالطب الحديث مأخوذ من الرازي وابن سينا ، وعلم الاجتماع المعاصر يوجد عند ابن خلدون ، واللسانيات المعاصرة عند سيبويه ... وهلم جرَا . وهم يعتبرون كل زمن شراً مما قبله ، ومتعلقون بالصورة والشكل لا بالروح والجوهر .
ب. المغرقون في المستقبلية : ينظرون دائماً إلى الأمام ولا يلتفتون إلى الوراء لأن الإنسان يتطور دائماً إلى ما هو أحسن وأمثل ، إنهم كما وصفهم أحد المفكرين : " كأنما يريدون أن يلغوا الماضي من الزمن ، و (أمس) من اللغة ، والفعل الماضي من الكلام ، ويحذفوا الوراء من الجهة ، والذاكرة من الإنسان" . التراث عندهم متهم ، والماضي بغيض ، والسلف متخلفون ، وتاريخ الأمة ظلمات بعضها فوق بعض . يسكتون عن حسنات التراث ، ويضخمون ما فيه من فتن وانحرافات .
ج - دعاة الوسطية : هم الذين سلموا من إفراط الأولين وتفريط الآخرين ، يعلمون أن التطور والتغير ليس دائماً إلى الأحسن والأمثل . يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إلى ما هو أفضل ، وينكرونه إذا اتجه نحو الهبوط والانحدار . إنه تيار الوسطية الذي لا يغفل المستقبل ولا ينسى الماضي .
4. العناية بحقوق الإنسان :
يصور كثير من الباحثين أن حقوق الإنسان نبت غربي لم يكن قبلا في الأمم السابقة ، والحقيقة أن هذه نظرة مبتسرة قاصرة .
إن الأمة العربية قد عرفت حقوق الإنسان عن طريق ما بثه الإسلام ، بمصدريه القرآن والسنة ، من قيم ومبادئ تعترف للبشر بحقوقهم كاملة غير منقوصة ، حتى إنها اعترفت بحقوق الحيوان . لقد شمل الإسلام حقوق الإنسان الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية ، وأكد المساواة والحريات العامة المتنوعة .
وقد شمل الإسلام حقوق البشر بأنواعهم : الرجال والنساء والأطفال .
وشمل المسلمين وغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية وخارجها .
وضمن الإسلام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي ، وجعله فرضاً على الفرد والجماعة والدولة .
وقد شرع الإسلام الجهاد لحماية حقوق الإنسان ، ومنع استضعافه ، والبغي على ذاته وحقوقه : (( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان )) .
وقبل أن أختم بحثي أريد أن أؤكد بعض النتائج الضرورية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمتنا :
1. ضرورة تواصل الحوار بين المخلصين من الطرفين : الأصالة والمعاصرة ، لتصحيح المفاهيم ، وإزالة الشبهات ، وتقريب الشقَة ، ومحاولة توسيع مساحة المتفق عليه ، وتأكيد التعاون فيه ، والمناقشة الجادّة في المختلف فيه ، والعمل على تضييقه ، والاجتهاد في الوصول إلى الصواب أو الصحيح أو الأصح ، وأن نعمل بالقاعدة الذَهبية:(نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ).
2. تأكيد كرامة الإنسان : لقد وجه كثير من مفكري الغرب النقد العنيف إلى الحضارة الغربية التي أعلت من شأن المادة وهبطت بقيمة الإنسان ، فعلينا أن نؤكد ذلك ونتبناه ، ونجعل من ثقافتنا الإنسانية واقعاً حياً في أرضنا ومجتمعاتنا ، ونمكن لها في حياتنا العقلية والوجدانية ، حتى تؤدي دورها المطلوب في البناء والإعلاء .
3. لا تناقض في ثقافتنا بين العروبة والإسلام ، إلا إذا حرفت العروبة فكانت معادية للإسلام ، وحرف الإسلام فكان معادياً للعروبة .
4. لا صراع في ثقافتنا بين العلم والدين ، أو بين العلم والإيمان أو بين العقل والنقل . العقل أساس النقل ، والنقل يُشيد بالعقل ويحتكم إليه ، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول . لذا يجب أن نعلي من شأن العلم والإيمان حتى تدخل الأمة العصر بجناحين راسخين .
5. لا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة ، إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها . إذ نستطيع أن نكون معاصرين إلى أعلى مستويات المعاصرة ، وأن نبقى كذلك أصلاء حتى النخاع . إنما تتعارض الأصالة والمعاصرة ، إذا فهمت الأصالة على أنها الاحتباس الاختياري في سجن الماضي ، والمعاصرة على أنها الدوران في رحى الغرب . لذا يجب أن نرفض اتجاهين متطرفين : الاتجاه الأول الذي ينتهي بالأصالة إلى الجمود والتحجر ، والاتجاه الثاني الذي ينحو بالمعاصرة نحو الفناء في الغرب ، واتّباع سننه " شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه " ، ولا يكتفي بأخذ العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة والتنظيم فيه ، واقتباس كل ما تنهض به الحياة ، بل هو يصرُ على نقل الأنموذج الغربي إلينا بكل عناصره ومقوماته ، ولاسيما جذوره الفلسفية ، ومفاهيمه الفكرية ، ومجالاته الأدبية ، وتقاليده الاجتماعية ، وقوانينه التشريعية ، ومؤثراته الثقافية .