شغلت عمليّة القراءة على مدار الزمن أذهان الفلاسفة والمهتمّين بهذا المجال، ولأن المعرفة والعلم ارتبطا بالقراءة، أصبح من الطبيعي الإشارة إلى القراءة على أنها عملية تعلّم في حد ذاتها.
سواء تعلّمُ شيء جديد أي اكتساب المعارف، أو إعادة إظهار لما هو مطمور داخل النفس كما كان يرى ذلك سقراط، فالإنسان - عنده - وُجد وهو يمتلك كافة المعارف، ويبقى دوره هو إيقاظ هذه المعارف الكامنة داخله.
وعليه يمكن القول بأنّ القراءة مرحلة ثانية، أمّا تأسيس الفكر فهو المرحلة الأولى، وبعدهما التفكير كمرحلة ثالثة.
بمعنى أن نتعلم كيف نفكر أي كيف نبني آلية منهجية للتفكير الصحيح، وبناؤها يعتمد على سؤال الهدف من القراءة، ثم نقرأ، وبعدها نتساءل وفق منهجية التفكير أو الآلية التي بنيناها في ما قرأناه لاستخلاص المفيد منه.
الإنسان عنده القدرة على استنباط واستكشاف معاني كثيرة من نص واحد، كل شخص بإمكانه أن يفهم النص بما يناسبه، ونحن كبشر نملك استعدادًا لتحوير النصوص وتأطيرها بحسب أفهامنا وهذا يمكن ملاحظته - كمثال - في الاختلافات الفقهية وكيف يستند كل فقيه إلى نفس النص، ومع هذا تختلف النتيجة والآراء.
فأول خطوة قبل القراءة، هي وضع الأرضية التي يمكن من خلالها فهم ما نقرأ ثم التفكير به واستخلاص الفائدة منه، كما مرّ.
نحن بحاجة لتعلم الفهم، وفي نفس الوقت تعلم العقيدة، وبعد ذلك يمكن لنا أن نحاكم ونقرأ أي نص دون خوف، بل سيصبح بإمكاننا بعد ذلك أن نستلهم المفيد من تلك القراءات ونوظفه في ميولنا القرائية، وتدعيم آرائنا، بل واستنباط مؤيداتها ممّا قرأنا، وإن كان مخالفًا بحسب الظاهر لها، وهذا هو علاج الفكر أن يُقابل بالفكر لا بالمنع.
الشهيدة بنت الهدى (آمنة الصدر) استطاعت أن تخرج من التاريخ روائع، صاغتها في خدمة العقيدة والدين بصورة أدبية روائية نفذت إلى الأذهان قبل القلوب؛ الشيخ أبو جعفر الخراساني استطاع أن يوظف ميوله الشعرية في خدمة العقيدة بكتابة أرجوزة «هداية الأمة إلى معارف الأئمة عليهم السلام» بما فاق الأربعة آلاف بيت في الردّ على أصحاب الفلسفة والذوق كما سمّاها، وهكذا بإمكان كل شخص متى ما تشبع بالفكر الصحيح، و وقف على أهم ما فيه، واستحكم منه، أن يوظف ميوله فيه، ولا يهمه بعد ذلك النص الذي أمامه، لمسلم أو كافر، ملحد أو مؤمن، ففي كل الحالات سيكون قادرًا على تفسيره، وتطويع ما يلزم بما يخدم معتقده. كما فعل ذلك مثلاً الشهيد الصدر في نظرية المعرفة. فليست هناك حاجة لتحديد (ما يقرأ) الآخرون، وممارسة الرقابة المسبقة عليهم بل الحاجة الأساسية تكمن في تعليمهم أساسيات التفكير، وأهمها: كيف ينتقدون؟ ولماذا يقرؤون؟
وهم بعد ذلك سيتحولون إلى (مؤثرين) لا متأثرين بالآخرين الذين تكون قراءاتهم بلا فائدة، وعقولهم مقتصرة على كونها (ذاكـرة) للحفظ والتخزين لا أكثر.
ومما يؤسف له، أن الكثير من الشباب لا تتم تربيتهم على هذا الأساس، فخرجت لنا أجيال متأثرة تخلط عقائدها بعقائد الآخرين، لأنها غير قادرة على ممارسة عملية (المعالجة) لأفكار ورؤى الآخرين لكونها لم تزوّد وتُعلّم بهذه الأساسيات
من هنا يمكن أن نطرح هذه الأسئلة.
- السؤال الأول: لماذا نقرأ؟
لا يمكن أن نجيب على السؤال بأننا نقرأ للقراءة نفسها. فالقراءة ليست موضوعًا إنما طريق. ولأن القراءة هي عملية تركيب لرسومات اتُّفق عليها لاعطاء معنى ما، سُميّت بـ(الأحرف)، فإن هذا يدل على أن عملية القراءة بحد ذاتها مجرد وسيلة لنقل المعرفة.
دانتي أليغييري، الشاعر الإيطالي الشهير بكوميدياه، يذهب إلى أنّ النص، أي نص، يمكن قراءته بنوعين أولاً المعنى الذي نحصل عليه من الأحرف، وهي القراءة المتعارفة أو القراءة اللغوية إن أمكن تسميتها بذلك.
وثانيًا المعنى المجازي وهو ما تصفه هذه الأحرف، أي المعاني الباطنية التي يمكن استخراجها من النص. أو القراءة الفكرية.
فكل نص، في الحقيقة، يملك القابلية لاستنباط عشرات المعاني المجازية أو التفسيرات منه، كلٌ بحسب قراءته له.
لذلك نحن حين نقرأ، نبحث عن معرفة، سواء كانت جديدة تضيف لنا شيئًا جديدًا وهي القراءة على المستوى الأول، أم إضافية وهي ما نستخرجه من النصوص لتدعيم آرائنا واثباتها قبال باقي الآراء والاعتقادات وهي القراءة على المستوى الثاني.
هذه المعرفة بشقيها تساعدنا على فهم أفضل لمختلف القضايا، وتجعلنا على بصيرة بما يدور حولنا، وتمنحنا قدرة أكبر على فهم اعتقاداتنا وما فيها من أسئلة ضرورية.
السؤال الثاني: ماذا نقرأ؟
القراءة كالفرس الجامح، يجب أن يكون له خيّال يوجهه.
كذلك هي القراءة، يجب أن تكون موجهة، وليست عبثية ولمجرد القراءة بحد ذاتها. لا يوجد ما يمنع من قراءة أي شيء بما فيه ما يخالف وجهات نظرنا أو اعتقاداتنا حتى ولو وصلنا إلى درجة القطع واليقين بها،
لأن ذلك لا يخلو من فائدة ولكن هذا لا يعني قراءة كل ما هب ودب دون بناء القواعد الأساسية لمعارفنا واعتقاداتنا.
وهذا هو الأهم في
"ماذا نقرأ؟
" أول ما يجب الاهتمام به هو التركيز على بناء قواعد متينة لأكثر الأسئلة إلحاحًا في حياة الإنسان وهي الأسئلة الاعتقادية، حتى تصبح مرجعًا يمكن من خلال الرجوع إليه الإجابة على الاستشكالات التي تواجهنا في حياتنا اليومية، ومع توسع شبكة الانترنت والحاجة اليومية لها، تزداد من هذه الأسئلة طرحًا وبصيغٍ مختلفة، لأنّ المكان يجمع العقول المختلفة ومن ثمّ الإشكالات المختلفة أيضًا.
الاهتمام بالمطالعة، والإطلاع على كل شيء سواء في الأدب، أو العلوم الإنسانية والفلسفية، أو السياسة وغيرها، شيء جميل وتعطي للمرء تفردًا بفهم واسع لمختلف الأمور، سيما في مجتمعات لا تملك التقدير الكافي للقراءة وتميل إلى اسباغ صفات مبالغ فيها على من يتجرأ ويمارس هذه العملية ولو بحدها الأدنى، إنما هذه المطالعات كلها يجب أن مستتبعة لما هو أهم.
يجب أن يكون للقراءة هدف. والذي يقرأ كل شيء بلا هدف لن يصل إلى فهم شيء أبدًا.
من الخطأ توجيه القراءة إلى الإجابة التساؤلات، لأن هذا يعني اهمال المزرعة لأجل العناية بثمرة . فإجابة التساؤلات هي فرع عن استحكام المعرفة. والمعرفة التي تكون مبنية على معرفة الأسئلة الملحة وإجاباتها فقط لا تجعل من الإنسان يختلف عن الآلة التي لا تجيب إلا بما تؤمر، إن القبض على زمام المعرفة في مجال ما لا يضمن لصاحبه الإجابة على أهم الإشكالات بل تجعله يطوّر من معرفته لتعالج حتى الإشكالات التي لم يحن موعد ولادتها بعد.
هناك نوعان من العقول. عقل انقيادي وعقل نقدي.
العقل الأول ينقاد مع جميع ما يقرأ لأنه لا يملك أرضية صلبة يقف عليها ويمكن من خلالها أن يحاكم الأفكار أمامه.
والعقل الثاني عقل يمكنه أن يستخلص أهم الأفكار، ويحللها ويركبها وفق رؤاه.
أي يصل إلى مرحلة قراءتها على المستويين القراءة اللغوية، والقراءة الفكرية.
حينئذ يكون قادرًا على أن يتعامل مع كافة وجهات النظر المؤيدة له أو المخالفة على حد سواء، ويصبح مؤثرًا بالأفكار بدل أن يكون متأثرًا بها.
يشبّه علي شريعتي عملية القراءة والتفاعل معها بالجهاز الهضمي، يدخل فيه الطعام فيستخلص المفيد ويطرد الضار.
كذلك يجب أن يكون العقل مع القراءة، وهذا الشيء لا يمكن أن يحدث إلا بمعرفة ما هو المفيد وما هو الضار، فنعود لسؤال: ماذا نقرأ؟ وقبله لماذا نقرأ؟
وضع الإجابة لهذه الأسئلة منذ البداية، يوفر علينا تعب الدوران في حلقة مفرغة نضطر فيها لخوض بحار التوهان قبل أن نكتشف الحال بعد فوات الأوان.