تبدو الحكمة كالمرآة، ثابتة في مكانها تعكس ما يمر أمامها، تعكس طورًا عمق نظرة قائليها، وطورًا آخر تعكس مدى استعداد مستقبليها لإدراك كنهها، لذا اعتبر الوعي حالة فوق الإدراك، وتمايز العلم عن الفهم. فإدراكك للكلمات المكتوبة التي تراها أمامك، وعلمك بوجودها، حالة منفصلة عن وعيك بما فيها، وفهمك لرسالتها ومغزاها. ومن هذا الباب يمكن استيعاب السؤال:
لماذا لا تموت الحكمة؟
لأنها تبقى حيّة ببقاء العقول، وقادرة على بث اشعاعها بتغاير الزمان، فرسالتها تتعدى الحروف المنظومة التي تشكل كلماتها إلى
(الفهم
) الذي تغذي به العقول، لتصعد بها إلى درجة الوعي بما هو
"وراء المظاهر الخارجية للأشياء
" وتقدّم فهمًا يتجاوز العلاقات الظاهرية.
في إحدى قصص «كليلة ودمنة» يصطدم الثعلب الجائع، بأن الطبل الذي سمع صداه، وأطرب صوته العالي أذناه، كان فارغًا حين مزقه بأنيابه بعد طول انتظار وصبر على الجوع، مُمنيًا نفسه باللحم والشحم الذي تصوّره المسؤول عن هذا الصوت العالي له، ليقول قولته الخالدة:
«أفشل الأشياء أجهرها صوتًا، وأعظمها جثة
»إن عمق الحكمة لا يقتصر على اختزالها لمعاني كثيرة بكلمات بسيطة، ولكن يتمدد عمقها بالتزامن مع قدرتها على توليد معانٍ جديدة مرة تلو الأخرى، وفي بعض الأحيان بمدى درجة قابليتها لأن تصبح مقياسًا لإنتاج الأحكام بمجرد توافق معناها مع حالة ما.
يُقال بأن العربة الفارغة أكثر جلبة من الممتلئة، كالعادة حقيقة يتم تأكيدها مجددًا بصيغة أخرى، غالبًا الفارغ أعلى ضجيجًا من الآخرين، ولا يقتصر الأمر على الماديات بل يتعداه إلى الإنسان ذاته، الإنسان الذي لا يمكن وصفه – بحسب تعبير الفلاسفة- بـ
"ما هوَ، هوَ
" بل يوصف دائمًا بالهويّات التي يصبغ نفسه بها كإتجاهه الفكري، وميوله العقائدية، وذوقه الفنّي، وانتهاءً بلباسه ومظهره الخارجي، وممتلكاته. وهذه الأشياء قابلة للتغيّر والتبدّل لكنها غير قابلة للانتزاع، فكيف تستطيع أن تصف إنسانًا متجرّدًا من كل شيء؟ لا يمكن ذلك، لأن التجرّد التام وانتزاع النفس من كل شيء هو في الواقع ضربٌ من الخيال.
وعلى الرغم من ذلك تتقافز دعاوى التجرّد في كل مكان بصورة مقززة مقصية أهم حقيقة إنسانية: أنّ التنازع صفة أصيلة، وليست عارضة عليه.
إن لم تكن بالدين، فـ بالعرق، أو الفكر، وصولاً حتى لِلون القميص الذي يرتديه. هذا طبع بشري نابع من كون الإنسان يرى في نفسه رغم ضآلته القدرة على تطويع الطبيعة حوله لمصلحته، فإنه يميل للتعصب لمواقفه الخاصة وآرائه تبعًا للشعور الذي ينبع من إيمانه بقدراته. ولم يكن ذلك في يوم من الأيام عائقًا –لوحده- فقد استمرت البشرية بالتقدم في ذات الوقت الذي تتنازع به كل فئة مع الأخرى.
ولا يوجد ما يعصمهم من هذا التنازع إلا الوعي بالموقف، أما العلم والمعرفة فهي قد تكون أولى أدوات النزاع
[1] وأهم أسلحته، وكلما تكاثرت في داخل النفس ازدادت النزعة الإقصائية أكثر وأكثر عند صاحبها ما لم تتزامن مع الوعي بأنّ العلم ليس سوى ثمرة لا تغني عن الشجرة التي هي السعي نحو الكمال عند الإنسان، وهذا السعي يسير بمسارين الأول على الصعيد الشخصي والثاني على الصعيد الاجتماعي. وإذا لم يعمل على كلا المسارين بنفس الوقت فإنّ أي جهد يبذل في أحدهما ليس أكثر من صوت طبل فارغ.
أكثر الطبول ضجة، أكبرها فراغًا. العلم والمعرفة والشهادات ليست سوى ذلك الغشاء الرقيق الذي يمثّل سطح الطبل، أمّا الأهواء وإيحاءات المجتمع، والخلفيات الثقافية والفكرية، وطبيعة الإنسان ذاته هي ذلك التجويف الذي يضفي على هذا الغشاء هذه الضجة. وهي التي تجعل من أصحابها يجمعون المقدمات الصحيحة، ويوظفونها للوصول إلى نتائج مسبّقة كمن يضع العربة أمام الحصان ثم يطلب منه السير. الجزيئات الصحيحة لا تقود بالضرورة إذا جمعت مع بعضها إلى كليّات صحيحة، فهو كمن يقول بأنّ كل معدن هو صلب، والزئبق معدن، إذًا فالزئبق صلب! فالقضايا العقلائية متغايرة، لكنّ العقلّية ثابتة
[2].
هذا النوع من المغالطات هو البضاعة الرائجة عند أدعياء المبادئ الشعاراتية لأنها غير مبرهنة عندهم، فهو يقول بأنّ الظلم لا يجوز لكنه لا يحددّ ما هو الظلم؟ وباسم محاربة الظلم، يمارسه وبأبشع صوره! الشعارات والأفكار المبهمة تضلل أكثر مما تهدي، وطالما أنها لم تبنى على يقينيات وقضايا عقلية قطعية واضحة فإنها تتحول لنصلٍ بلا مقبض يضر صاحبه قبل غيره، ويسهل إدعاؤها ومن ثم يتم تغطيتها بأصباغ الرغبات الشخصية، والهواجس النابعة من شعوره بالخواء.
إنّ نغمة الطبل جميلة، كذلك هو حديثهم، مسبوك وجميل ويملك زخمًا إعلاميًا كبيرًا، حديث لا يختلف عن الصعقات الكهربائية تُرعش الجسم لقوتها، وسرعان ما تزول. وهذه الأحاديث حين التعمّق في معناها يظهر خواء باطنها. إنّ مثل هذا الحديث كمن يقول لك بأنّ
«العقل هو سيدي
»[3] ولكن يسقط السؤال حين تتساءل عمّا هو هذا العقل؟ لا يملك إجابة لهذا السؤال لأنه أتعب نفسه في سبك العبارة وتزيينها وتغافل عن حقيقتها، وهذا هو الفرق ما بين الحكمة واللغو، رغم أن كلاهما ليسا سوى كلمات مجموعة.
كما أنّ الطبول تعتمد على نغمات ضاربها، كذلك هي مبادئ وأفكار هؤلاء، يطوعونها على نغماتهم وما يريدون، ففي موقف تصبح الحريّات هي الغاية العظمى، وفي آخر هي الخطر الداهم، وما هذا إلا بسبب المناهج المتعددة التي يلّفقونها، يطبقون الأشد منها على ما يكرهون، ويجعلون الأيسر منها لما يشتهون.
«فقتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
».
تغاير الأحداث في كل مكان، وتبدّل الأحوال يكشف الثابت من المتغير ، ويظهر من يؤمن بمبدأ يعرف ما هو، ومن يدّعيه ويوظف علمه في تأويله. إنّ كل طغاة الأرض كانوا من أصحاب المبادئ التي لم يحيدوا عنها أبدًا، كما أنّ كل المصلحين كانوا كذلك، وثبات الاثنين هو من كتب لهم بقاء الذكر في كتب التاريخ، الفارق بينهما هو في تعريفهم لما هي هذه المبادئ، فالصدق عند الكاذب ليس كالصدق عند المؤتمن، لذا لا يذكر الصادق كالفاجر، وإن كانا من أصحاب المبادئ.
الطبول الفارغة يملكون لسانًا وظهورًا بارزًا لكنهم لا يقدمون
«عقلاً
» قدر تقديمهم لاستعراض معارفهم المخزونة.
العقل يملأ تجويف الرأس، ولا ضجيج للعقول المفكرة، والطبل يملأ تجويفه الهواء، وما أكثر ضجيج الهواء!